فصل: مطلب جواب اللّه ورسوله عمّا يقال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الرواية الأولى على بنى إسرائيل لا يستدل بها على ما نحن فيه لأن الرجز هذا خاص بالضبط كسائر الآيات المتقدمة أما على الرواية الثانية وهي على من قبلكم فيصلح دليلا لما هنا.
هذا ولما رأو ما حل بهم نسوا فرعون والسحر وعجوا واقعين على الأقدام {قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} وأوصاك به من النبوة والمرحمة، وهذه الياء للقسم الاستعطافي كذا يستعطفونه عليه السلام وهم باكون ضاجون قائلين واللّه ربك {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} الموت الذي حل بنا بافترائنا عليك وكذبنا بمواثيقنا ونفقنا عهودنا فالآن وعزة ربك وجلاله {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ 134} وو اللّه ربك لا يسعنا بعد هذا إنكار أو تكذيب أو القول بأنه سحر لأنه الموت يا موسى ذقناه ولمسناه هذا، الذي لا رجوع بعده بخلاف الآيات الأول لأنا نراها تزول فتتغير عقب زوالها وتعود إلى الكفر وننقض عهودنا ومواثيقنا بسبب رؤيتنا عودة الحالة السابقة إلى طبيعتها، أما الآن فلا وأكثروا من العويل والاستكانة وتمسكوا به خاضعين خاشعين، ولما رأى اعترافهم بالآيات وآنس منهم الصدق في هذه المرة حنّ عليهم وقبل رجائهم فدعى اللّه مولاه بكشفه عنهم فأجاب دعائه أيضا.
قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} أتى بالظاهر موضع المضمر للتأكيد وقد أخرناه {إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ} وهو وقت إغراقهم بالبحر المعلوم وقته عنده والذي هم واصلون اليه لا محالة {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ 135} ما أعطوه من إيمان وعهود ومواثيق، وعاد إلى الطعن والتكذيب شأنهم في كل مرة ولا يقال إن اللّه تعالى عالم بأن آل فرعون لم يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، فلم والى عليهم هذه المعجزات لأنه نظير قوله جل قوله: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الآية 164 الآتية.

.مطلب جواب اللّه ورسوله عمّا يقال:

هذا هو جواب اللّه إلى هذا المعترض وجواب لرسول.
هو قوله تعالى: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} يفعل ما يشاء ربكم ما يريد، وهذا جواب أهل السنة والجماعة، أما جواب المعتزلة القائلين برعاية الأصلح إن اللّه علم من قوم فرعون أن بعضهم يؤمن بتوالي المعجزات وظهورها فلذلك والاها عليهم واللّه أعلم بمراده وهو قول وجيه لو لم يقترن برعاية الأصلح أي أن فعل الأصلح للعبد واجب على اللّه عندهم ومذهب أهل السنة والجماعة بخلافه.
قال صاحب الجوهرة:
وما قيل إن الصلاح واجب ** عليه زور ما عليه واجب

وقال في بدء الأمالي:
وما أن فعل أصلح ذو افتراض ** على الهادي المقدس ذي التعالي

ومعنى النكث في الأصل فل طاقات الغزل ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه.
راجع تفسير الآية 91 من بعدها في سورة النمل في ج 2، وجواب لما مقدر تؤذن به إذا الفجائية أي فاجئوا بالنكث، وما قيل بأن جوابها الجملة المقترنة بها فيه تساهل وتسامح وكلا من لما وإذا معمول لذلك الفعل المقدر الأولى ظرفه والثاني مفعوله وذلك محافظة لما ذهبوا اليه من أنه يجب أن يكون الذي يلي لما من الفعلين ماضيين لفظا أو معنى إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا الفجائتين في موقع المفعول به للفعل لأن لما تجاب بإذا الفجائية الداخلة على الجملة الاسمية فلا لزوم إلى هذا التكليف بتقدير الفعل قال تعالى: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ} أي فرعون وقومه ومناصريه جزاء نكثهم المترادف {فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ} معظم ماء البحر وسلبنا نعمتنا منهم وأهلكناهم.
قال ابن قتيبة: اليم سرياني معرب وما قيل إنه أسم خاص للبحر الذي غرق فيه فرعون وقومه ليس بشيء، قال الألوسي في روح المعاني إن هذا القول غريق في يم الضعف وإنما جعلنا هذا الإغراق عقوبة لهم {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا} الدالة على صدق نبينا {وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ 136} لاهين لاعبين لم يتفكروا بمن أظهرها ولم يتذكروا بها ولم يبالوا بمن أنزلها وأنزلت عليه ولم يتعظوا بنزول النقمة بهم المسببة عن الأعراض عن تلك الآيات وعدم التفاتهم إلى زجر نبيّهم واعراضهم عما يؤول اليه أمرهم واتباع من كان السبب فيها، فكأنها لم تكن، والغفلة ليست من فعل الإنسان، على أن من شاهد مثل تلك الآيات لا ينبغي له التكذيب بل التصديق والانقياد قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} أي يستذلون ويسترقون ويهانون وهم بنوا إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم للخدمة ولا أعظم من هذا اهانة وهوانا فجعلنا نحن إليه الكل من الذكور الذين كانوا مملوكين ملوكا وأنبياء وملكناهم {مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا} أي جهاتها بما فيها بيت المقدس ومصر والشام وهذا أولى من الاقتصار على ارض مصر التي كانوا فيها عبيدا هم ونساؤهم، وهذه الأرض هي {الَّتِي بارَكْنا فِيها} بكثرة الثمار والزروع والأشجار والخصب وسعة الرزق وكونها مساكن الأنبياء والصالحين ومرقدهم، وكلها كانت داخلة في ملك داوود وسليمان وهما من بني إسرائيل ولم يقتصر ملكهما على مصر والشام بل بيت المقدس وما حواليه واليمن وغيرها هذا، وقد جاء في فضل الشام أحاديث كثيرة اخترنا منها ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال: ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام.
واخرج ابن عساكر عن حمزة ابن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها اسرى به إليها.
وهذا مؤيد بإسراء حضرة الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلم ومهاجرة ابراهيم ولوط عليهما الصلاة السلام، لانهم ليسوا منها.

.مطلب ما جاء في مدح الشام:

واخرج احمد عن عبد اللّه بن خولة الأزدي أنه قال يا رسول اللّه خر لي بلدا أكون فيه، قال عليك بالشام فإنه خيرة اللّه تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده.
واخرج ابن عساكر عن واثلة ابن الأصقع قال: سمعت رسول اللّه يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد اللّه يسكنها خيرته من عباده.
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد اللّه ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام.
وجاء من حديث أحمد والترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم أيضا عن زيد بن ثابت أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال: طوبى، للشام، فقيل له ولم؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها.
هذا، والأحاديث في فضل الشام كثيرة، إلا أن فيها مقالا فمنها الضعيف والمنكر والموضوع، وسبب وضع بعضها ما كان يتملّق به بعض المنافقين زمن الأمويين، والشام اسم للاقليم المعروف من حدود الحجاز إلى الترك، ومن مصر إلى العراق، قال في القاموس الشام بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا أي تياسروا إليها ولأنها مساكن سام بن نوح وأن السين تقرأ بالعبرية شينا.
أخرج ابن ابي لحاتم عن ابي الأعمش وكان قد أدرك أصحاب رسول اللّه أنه سئل عما بورك من الشام، أي مبلغ حده فقال: أول حدوده عريش مصر، والحد الآخر طرف الثنية، والحد الآخر الفرات، والحدّ الآخر جعل فيه قبر هود عليه السلام.
وان دمشق أو جلق المعروفة الآن بالشام فهي داخلة هذا الإقليم، وفيها خاصة ما قاله بعضهم:
دمشق غدت جنة للورى ** زها وصفا العيش في ظلها

وفيها لدى النفس ما تشتهي ** ولا عيب فيها سوى أهلها

وقال آخر:
تجنب دمشق ولا تأتها ** وإن شاقك الجامع الجامع

فسوق الفسوق بها نافق ** وفجر الفجور بها ساطع

وهذا القائل تشابه قلبه مع قلب من حرّف ما كتب على معرض دمشق عام 1934 عبارة معرض دمشق وسوقها بعبارة: معرص دمشق وفسوقها، وهكذا قلوب المنافقين تتشابه كقلوب الكافرين ألا تراهم على وتيرة واحدة في أفكارهم ومداهنتهم راجع الآية 118 من البقرة في ج 3.
وقال آخر:
قيل ما يقول في الشام حبر ** شام من بارق الهنا ما شامه

قلت ماذا أقول في وصف أرض ** هي في وجنة المحاسن شامه

وفي الحقيقة هي الآن قبة الإسلام ومعهد العلوم وباب التقوى ومعدن حلق الذكر وتداول كتاب اللّه ومركز أهل الفضل والصلاح وكنانة اللّه في أرضه وملاك الخيرات.
أما ما يتفوه به بعضهم فله نوع من الصحة لأنها بلدة عظيمة فيها الغث والسمين، وكل يعمل على شاكلته:
لكل امرئ في دهره ما تعودا ** وكل إناء بالذي فيه ينضح

والطيور على أشكالها تقع، فنسأل اللّه أن يولي الأمور خيارها ويوفقهم وسائر المسلمين لإزالة ما وصمهم به عدوهم، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى} التي هي النصر على العدو وانجاز الوعد بتمكينهم في الأرض واستخلافهم فيها وتلك منّة جلّى {عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ} من اللّه إذ ذاك، أما الآن فنسأله بحرمته أن يدمرهم ويذيقهم أشد ما لاقاه آباؤهم ويطهر الأرض المقدسة منهم ويولي عليهم من يعيد لهم زمن فرعون إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، لأنهم لم يقدروا نعم اللّه الذي جعلهم بعد الرق أحرارا وبعد الذل أعزاء وجعل منهم ملوكا وأنبياء بعد العبودية {بِما صَبَرُوا} اولا على الأذى والقتل والأسر، إعادة اللّه عليهم وذلك لأنهم انتظروا وعد نبيهم موسى عليه السلام بالفرج الذي مناهم به أربعين سنة، ولا شك أن الانتظار أشد من النار، قال تعالى: {وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من البنايات العالية والقصور الشامخة في مصر وغيرها {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ 137} من الكرم وغيره في الجنان، وجاز ضم راء يعرشون والكسر أفصح، وقد حصل هذا التدمير باغراقهم بالبحر وتركهم ديارهم وجناتهم وبالطوفان الذي أوقعه اللّه عليهم المنوه به في الآية 123 المارة، وهذا آخر ما قصه اللّه علينا في هذه السورة بما جرى بين فرعون وموسى، وانظر ما يقصه اللّه علينا مما أحدثه بنو إسرائيل بعد ألطاف اللّه عليهم التي يجب أن يقابلوها بالشكر، قال تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} بعد انجائهم منه وإغراق فرعون وقومه وخلفناه وراء ظهورهم وأمنوا من كيد فرعون وقومه الذي قطع أمعاءهم كما سيأتي في القصة مفصلا بالآية 53 من سورة الشعراء الآتية {فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ} قال قتادة هم طائفة من لخم كانوا نزولا على الرقة أي ساحل البحر لا الرقة التي على شاطئ الفرات من أعمال دير الزور، ولعلها سميت رقة لهذا السبب أيضا، وقال غيره هم الكنعانيون الذين أمر اللّه موسى بقتالهم ولما رأوهم {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} تماثيل من الأصنام وكانت على صورة البقر أي ليعبدوها مثلهم، قاتلهم اللّه استحسنوا عمل أولئك الكفرة وطلبوا مثله ولم وتجفّ أقدامهم بعد من انجائهم من البحر {قال} موسى زجرا لهم وتعجبا من حالهم وقولهم هذا بعد رؤية تلك الآيات التي خلصتهم من عبودية القبط وأهلكت أعداءهم دونهم على مرأى منهم، إذ كانوا في البحر جميعا، وصادف خروج آخر واحد منهم دخول آخر واحد من القبط فيه، ولما رأى عليه السلام طيشهم هذا {قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138} عظمة اللّه وقوة سلطانه ولا تقدرون نعمه، أتريدون أن تشركوا باللّه وتكفروا نعمه بعد أن نجاكم من الذل والعار والخزي والقتل والغرق {إِنَّ هؤُلاءِ} الذين ترونهم يعبدون الأصنام ويتخذون عبادتها قربة إلى اللّه، الذين تريدون أن يكون لكم مثل ما لهم من الأوثان {مُتَبَّرٌ} مدمّر هالك {ما هُمْ فِيهِ} من الحال ويؤدي إلى تدميرهم وليس بدين يتدين به وأن اللّه سيقدرني على تحطيم أصنامهم هذه وتبديدها وتصييرها فتاتا، لأن عبادتهم لها كفر محض واشراك مع حضرة الربوبية ومثل هذا الطلب محرم وهؤلاء قوم حمق {وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 139} من صنعها وعبادتها فهم كفار يجب قتالهم، لأنهم لم يريدوا بعبادتها وجه اللّه ثم {قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا} كلا لا إله غيره {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ 140} في زمانكم وهو المستحق للعبادة وحده لأنه النافع الضار، وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر فكيف تريدون عبادتها وهي لا تدفع شرا عن نفسها هذا جزاء اللّه منكم أيها الفسقة.